الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
في مسمى التوحيد حيث جعلوه ثلاثة أنواع: الأول: أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، أولا جزء له، أولا بعض له. الثاني: أنه واحد في صفاته لا شبيه له. الثالث: أنه واحد في أفعاله لا شريك له. وبيان غلطهم من وجوه: أحدها: أنهم لم يدخلوا فيه توحيد الألوهية وهو أن الله تعالى: واحد في ألوهيته لا شريك له فيفرد وحده بالعبادة، مع أن هذا النوع من التوحيد هو الذي من أجله خلق الجن والإنس لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. ومن أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. وقوله: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]. وقد قام الرسل عليهم الصلاة والسلام بذلك يدعون قومهم {أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره} [المؤمنون: 36]. أي مالكم من معبود حق غير الله، فجميع الآلهة سواه باطلة كما قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج: 62]. ومن أجله قامت المعارك الكلامية، والقتالية بين الرسل وأقوامهم المكذبين لهم كما قال الله تعالى: عن قوم نوح: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} [هود: 32]. وقال عن قوم هود: {قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون . من دونه فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون} [هود: 53: 55]. وقال في إبراهيم وقومه: {قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئًا ولا يضركم . أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون . قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} [الأنبياء: 66: 69]. وقال عن المكذبين لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوًا أهذا الذي يذكر آلهتكم} [الأنبياء: 36]. وقال: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب . أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عجاب . وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد} [ص: 4: 6]. وقال في أعدائه: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون} [الممتحنة: 2]. والمهم أن هذا التوحيد الذي هذا شأنه قد أغفله عامة المتكلمين الذين يتكلمون في أنواع التوحيد، وهو أحد وجوه غلطهم في مسمى التوحيد. الوجه الثاني: قولهم: "إن الله واحد في ذاته لا قسيم له.. " إلخ فيه إجمال: فإن أرادوا به أن الله تعالى: لا يتجزأ، ولا يتفرق، ولا يكون مركبًا من أجزاء فهذا حق، فإن الله تعالى: أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. وإن أرادوا به مع ذلك نفي ما وصف به نفسه كعلوه، واستوائه على عرشه، ووجهه، ويديه ونحو ذلك - وهذا مرادهم - فهو باطل، لأن الله تعالى: قد أثبت لنفسه من صفات الكمال من هذا وغيره ما هو أهل له. وتوحيده فيها إثباتها له على الوجه اللائق به بدون تمثيل، لا أن تنفى عنه بنوع من التحريف والتعطيل. الوجه الثالث: قولهم: (واحد في صفاته لا شبيه له) فيه إجمال: فإن أرادوا به إثبات صفات الله تعالى: على الوجه اللائق به من غير أن يماثله أحد فيما يختص به فهذا حق، وهو مذهب السلف لكن عامة المتكلمين لا يريدون ذلك. وإن أرادوا به نفي أن يكون شيء من المخلوقات مماثلًا له من كل وجه فهذا لغو لا حاجة إليه فهو كقول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا لأن مماثلة الخالق للمخلوق من كل وجه معلوم الانتفاء، بل الامتناع بضرورة العقل، والسمع، وإجماع العقلاء. ولهذا لم يُثبت أحد من الأمم أحدًا مماثلًا لله تعالى: من كل وجه، وغاية من شبه به شيئًا أن يشبهه به في بعض الأمور. وإن أرادوا به نفي أن يكون بين صفات الخالق والمخلوق قدر مشترك مع تميز كل منهما بما يختص به - وهذا مرادهم - فهو باطل، لأنه قد علم بضرورة العقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما لابد من قدر مشترك بينهما مع تميز كل واحد منهما بما يختص به، كاتفاقهما في مسمى الوجود، والذات والقيام بالنفس ونحو ذلك، ونفي هذا القدر تعطيل محض. والقول بهذا المراد لا يمنع نفي ما يجب لله تعالى: من صفات الكمال عند من يرى أن إثبات ذلك يستلزم التشبيه، فقد سبق أن أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد وقالوا: من أثبت لله علمًا، أو قدرة ونحو ذلك فهو مشبه غير موحد، وزاد عليهم غلاة الفلاسفة، والقرامطة فأدخلوا فيه نفي الأسماء وقالوا: من قال : إن الله عليم قدير ونحو ذلك فهو مشبه غير موحد، وزاد عليهم غلاة الغلاة فقالوا: إن الله لا يوصف بما يتضمن إثباتًا أو نفيًا، فمن نفى عنه صفة، أو أثبت له صفة فهو مشبه غير موحد. وقد سبق الرد على هؤلاء الطوائف في أول الرسالة ولله الحمد. الوجه الرابع: قولهم: "واحد في أفعاله لا شريك له" وهذا أشهر أنواع التوحيد عندهم، ويعنون به أن خالق العالم واحد، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا معنى " لا إله إلا الله " فيجعلون معناها: لا قادر على الاختراع إلا الله. ومعلوم أن هذا خطأ من وجهين: الأول: أن هذا الذي قرروه قد أقر به المشركون الذين قاتلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنهم لم يجعلوا لله شريكًا في أفعاله كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} [العنكبوت: 61] {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87]. ومع هذا لم يكونوا موحدين بل هم مشركون بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، لكونهم أنكروا توحيد الألوهية وقالوا: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5] {ولهذا قاتلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستبيحًا دماءهم وأموالهم، وسبى ذراريهم ونسائهم. الثاني: أن تفسيرهم "لا إله إلا الله" بهذا التفسير الذي ذكروه أي إنه لا قادر على الاختراع إلا الله، يقتضي أن من أقر بأن الله وحده هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا الله وعصم دمه وماله. ومعلوم أن تفسيرها بهذا المعنى باطل مخالف لما عرفه المسلمون منها فإن تفسيرها الصحيح: أن لا معبود حق إلا الله هذا هو الذي يعرفه المسلمون من معناها، بل والمشركون ألا ترى إلى قول الله تعالى: فيهم: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله الله يستكبرون. ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} [الصافات: 35: 36]. وكانوا لا يستكبرون عن الإقرار بقلوبهم وألسنتهم بأن الله هو الخالق وحده ولا يدعون أن آلهتهم تخلق شيئًا فتبين بذلك أن المشركين أعلم وأفقه بمعنى لا إله إلا الله من هؤلاء المتكلمين، وأن غاية ما يقرره هؤلاء المتكلمون من التوحيد توحيد الربوبية الذي لا يخلص الإنسان من الشرك، ولا يعصم به دمه وماله، ولا يسلم به من الخلود في النار. وقد سلك هذا المسلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، فكان غاية ما عندهم من التوحيد أن يشهد المرء أن الله رب كل شيء، ومليكه، وخالقه لا سيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل. ومعلوم أن هذه الغاية هي ما أقر به المشركون من التوحيد وهي غاية لا يكون بها الرجل مسلمًا، فضلًا عن أن يكون من أولياء الله تعالى: وسادة خلقه.
|